فصل: تفسير الآيات رقم (38- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏للذين‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏جنات‏}‏‏:‏ مبتدأ، وهو استئناف لبيان الخيرية، والرضوان فيه لغتان‏:‏ الضم والكسر، كالعدوان والطغيان، و‏{‏الذين يقولون‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏الذين اتقوا‏}‏، أو خبر عن مضمر، أو منصوب على المدح، أو بدل من العباد، و‏{‏الصابرين‏}‏ وما بعده‏:‏ نعت الموصول‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ أأخبركم ‏{‏بخير‏}‏ من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم، وهو ‏{‏جنات تجري من‏}‏ تحت قصورها الأنهار؛ من الماء واللبن والعسل والخمر، ‏{‏خالدين فيها‏}‏، لا كنعيم الدنيا الفاني، ‏{‏ولهم فيها أزواج‏}‏ من الحور العين، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات، ‏{‏ورضوان من الله‏}‏ الذي هو ‏{‏أكبر‏}‏ النعم‏.‏

فانظر‏:‏ كيف ذكر الحقّ- جلّ جلاله- أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه‏؟‏ فأدناه‏:‏ متاع الدنيا الذي زُين للناس، وأوسطه‏:‏ نعيم الجنان، وأعلاه‏:‏ رضي الرحمن، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يَقُولُ الله تعالى لأهِلْ الْجنَّةِ‏:‏ يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فيقول أهْلَ الجَنَّةِ‏:‏ لَبْيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكِ، والخير في يديك، فيقول‏:‏ هَلْ رضِيتُم‏؟‏ فَيَقُولُونَ‏:‏ مَالنَا لاَ نَرْضى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ العالمين، فَيَقُولُ‏:‏ ألا أعْطِيكُم أَفْضَلَ من ذلك‏؟‏ فيقُولون‏:‏ يا ربنا، وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ‏؟‏ قال‏:‏ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رَضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم َبَداً»‏.‏

‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏؛ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو‏:‏ ‏{‏بصير‏}‏ بأحوال المتقين‏.‏

‏{‏الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار‏}‏‏.‏ وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها‏.‏

ثم وصف المتقين بقوله‏:‏ ‏{‏الصابرين‏}‏ على أداء الأمر واجتناب النهي، وفي البأساء والضراء وحين البأس، ‏{‏والصادقين‏}‏ في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فاستوى سرهم وعلانيتهم، ‏{‏والقانتين‏}‏ أي‏:‏ المطيعين، ‏{‏والمنفقين‏}‏ أموالهم في سبيل الله، ‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏}‏؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة؛ لأن العبادة حينئذٍ أشق، والنفس أصفى، والروح أجمع، وَلاَ سيما للمتهجدين‏.‏

قيل‏:‏ إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر، ثم يستغفرون ويدعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله تعالى يقول‏:‏ إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين فِيَّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم العذاب»‏.‏

وقال سفيان‏:‏ إن لله ريحاً يقال لها الصيحة، تهبُّ وقتَ السحر، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار‏.‏ قال‏:‏ وبلَغنا أنه إذا كان أولا لليل، نادى مناد‏:‏ ألا ليقم القانتون، فيقومون يُصلون إلى السحَر، فإذا كان وقت السحر، ينادي منادٍ‏:‏ أين المستغفرون بالأسحار‏؟‏ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون، ويُصلون، فيلحقون بهم، فإذا طلع الفجر، نادى منادٍ‏:‏ ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم‏.‏

الإشارة‏:‏ للذين اتقوا شهودَ السّوى عند ربهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وأصناف الحكم، مطهرة من العلل، منزهة من الخلل، تهب عليهم نسيم الرضوان، تحمل الرَّوُحَ والريحان، مخلدون في نعيم الشهود والعيان، والله بصير بعباده المخلصين، المنزَّهين من العيوب، المبررَّئين من درن الذنوب، الصابرين على دوام المجاهدة، والصادقين في طلب المشاهدة، والقانتين لأحكام العبودية، والمنفقين أنفسَهُمْ ومُهَجَهم في طلب مشاهدة أنوار الربوبية، والمستغفرين من شهود الأغيار، وخصوصاً إذا هبّ نسيم الأسحار، فإن كثيراً من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار، وهي أسرار التوحيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قائماً‏}‏‏:‏ حال مِن ‏{‏الله‏}‏، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس، كقوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 72‏]‏، ولا يجوز‏:‏ جاء زيد وعمر راكباً؛ لعدم القرينة، أو مِن ‏{‏هو‏}‏، والعامل الجملة؛ لأنه حال مؤكدة، أي‏:‏ تفرد قائماً، أو حقه قائماً، ‏{‏بالقسط‏}‏ أي‏:‏ العدل، و‏{‏إن الدين‏}‏‏:‏ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى، أي‏:‏ لا دين مرضى عند الله سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من ‏{‏أنه‏}‏، بدل الكل، إن فسر الإسلام بالإيمان، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏}‏ أي‏:‏ بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلالئل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ *** أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ‏؟‏‏!‏

وللهِ في كل تحريكةٍ *** وتسكينةٍ أبداً شاهدُ

وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ *** تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ

وقيل لبعض العرب‏:‏ ما الدليل على أن للعالم صانعاً‏؟‏ فقال‏:‏ البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أمَا يدلان على الصانع الخبير‏؟‏‏!‏

‏{‏و‏}‏ شهدت ‏{‏الملائكة‏}‏ أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها، ‏{‏وأولوا العلم‏}‏ وهم‏:‏ الأنبياء والعلماء بالله، بالإيمان بها والاحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد‏.‏ وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم، حيث قرن شهادتهم بشهادته؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى، والعلماء أعلام الإسلام، والسابقون إلى دار السلام، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة‏.‏

وعن جابر قال‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَاعَةٌ مِنْ عَالمِ يتَّكِئ على فِرَاشِهِ، ينظُرُ في علمهِ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً» وعن معاذ قالَ‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ، ومدارستَه تسبيحٌ، والبحث فيه جهادٌ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة» ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم‏:‏ «وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم، وبأجنحتها تمسحُهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم‏.‏ حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع الأرضين وأنعامها، والسماء ونجومها، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى، ونورُ الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك، والفكر فيه يُعْدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يُعرف الحلال والحرام، وبه تُوصلَ الأرحام، العلم إمام والعمل تابعه، يُلْهَمُه بالسعداء، ويُحْرَمه الأشقياء»‏.‏

حال كون الحقّ تعالى ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ أي‏:‏ مُدبراً لأمر خلقه بالعدل، فيما حكم وأبرم، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏، كرر الشهادة للتأكيد، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد، والحكم به، بعد إقامته الدليل‏.‏

عليه وقال جعفر الصادق‏:‏ ‏(‏الأُولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم‏)‏‏.‏ أي‏:‏ قولوا‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏، أو ليرتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏، فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدَّم ‏{‏العزيز‏}‏ ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته‏.‏

‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ أي‏:‏ إن الدين المرضى عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به‏.‏ ورُوِيَ عن أنسَ رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأَ هذه الآيةَ عند منامه خَلَقَ اللَّهَ تعالى سبعين ألف خَلْقٍ يستغفرون الله له إلى يوم القيامة» وهي أعظم شهادة في كتاب الله، «من قرأها إلى ‏(‏الحكيم‏)‏ وقال‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودِعُ اللّهَ هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، يقول الحق تعالى‏:‏ إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ مَنْ وفى بالعهد، أدخِلوا عبدي الجنة»‏.‏

الإشارة‏:‏ صدرُ الآية يشير إلى الفرق، وعَجُزُها يشير إلى الجمع، كما هي عادته تعالى في كتبه العزيز، يشرع أولاً، ويُحَقِّق ثانياً، فأثبت الحق- جلّ جلاله- شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته؛ لإثبات سر الشريعة، ثم محاها بقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏ بحكم الحقيقة‏.‏ فإثبات الرسوم شريعة، ومحوها حقيقة، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان‏.‏ إثبات الرسوم إسلام وإيمان، ومحوها شهود وإحسان، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 19‏]‏ أي، الانقياد والإذعان، ظاهراً وباطناً، لأحكام القهرية والتكليفية، فمن لا انقياد له لا دين له كاملاً‏.‏

ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبُرهان، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏‏:‏ مفعول له، علة للاختلاف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما اختلف‏}‏ اليهود والنصارى في حقيقة الإسلام والتدين به، ‏{‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته، وأن الدين عند الله هو الإسلام، فجحدوه ظلماً وحسداً‏.‏ أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام؛ فأثبته قوم، وقال قوم‏:‏ إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً، إلا من بعد ما ثبت لهم بصحته وعموم الدعوة له‏.‏ أو في التوحيد؛ فثلث النصارى، وقالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا‏.‏ وقال الربيع‏:‏ إن موسى عليه السلام لما حضره الموت، دعا سبعين حبراً من قومه، فاستودعهم التوراة، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة، وهم‏:‏ الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف‏.‏

وذلك من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان ما في التوراة، ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ أي‏:‏ طلباً للملك والرئاسة والتحاسد، فسلّط عليهم الجبابرة، ‏{‏ومن يكفر بآيات الله‏}‏ المنزلة على رسوله، أو الدالة على وحدانيته، ‏{‏فإن الله سريع الحساب‏}‏؛ لا يشغله شأن عن شأن، وفيه تهديد لأهل الاختلاف‏.‏

الإشارة‏:‏ الاختلاف على الصوفية، والإنكار عليهم، إن كان بغياً وحسداً وخوفاً على زوال رئاسة المنكر، فهذا معرض لمقت الله، فقد آذن بحرب الله، وبالُه سوء الخاتمة، والعياذ بالله، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

هِمَمُهُمْ تَقْضِي بحُكْ الوَقْتِ *** مُنِكِرُهُم مُعَرَّضٌ للمٌقْتِ

وإن كان غيره على الشريعة، وسدّاً لباب الذريعة، فهذا معذور أو مأجور إن صح قصده، وهو منخرط في سلك الضعفاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يْسَ عَلَى الضُّعَفآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِيدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏، ولا ينكر على الفقير إلا المُحرَّم المجمع على تحريمه، وليس فيه تأويل، كالزنى بالمعينة، واللواط وشبهه، والمؤمن يلتمس المعاذر، والمنافق يلتمس العيوب، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ومن اتبعن‏}‏، عطف على فاعل ‏{‏أسلمت‏}‏؛ الضمير‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإن حاجوك‏}‏ في الدين، وخاصموك فيه، بعدما أقيمت الحجج على صحته، ‏{‏فقل‏}‏ لهم‏:‏ أما أنا فقد ‏{‏أسلمت وجهي لله‏}‏، وانقدت بكليتي إليه، وتمسكت بدينه القويم، الذي قامت الحجج على حقيته، وكذلك من تبعني من المؤمنين‏.‏ وخصّ الوجه بالانقياد؛ لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل‏.‏

‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب‏}‏ من اليهود والنصارى، ‏{‏والأميين‏}‏ الذين لا كتاب لهم من المشركين‏:‏ ‏{‏أأسلمتم‏}‏ كما أسلمتُ‏:‏ لما وضحت لكم من الحجة‏؟‏ أم أنتم على كفركم بغياً وحسداً‏؟‏ والاستفهام معناه الأمر، كقوله‏:‏ ‏{‏فَهَلَ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 14‏]‏ أي‏:‏ أسلموا، ‏{‏فإن أسلموا فقد اهتدوا‏}‏ وأنقذاو أنفسكم من الهلاك، ‏{‏وإن تولوا‏}‏ وأعرضوا ‏{‏فإنما عليك البلاغ‏}‏، ولا يضرك عنادهم، فقد بلغت ما أمرت به‏.‏ ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ لا يخفى عليه من أسلم ممن تولى‏.‏

رُوِيَ أنه- عليه الصلاة والسلام- قرأ عليهم هذه الآية، فقال لليهُود‏:‏ «أتشهدون أن عزيراً عبد الله ورسوله وكلمته‏؟‏» فقالوا‏:‏ معاذ الله، وقال للنصارى‏:‏ «أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله‏؟‏» فقالوا‏:‏ معاذ الله أن يكون عيسى عبداً‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تولوا فإنما عليك البلاغ‏}‏ الآية‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يليق بالفقير، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار، إلا السكوت والإقرار، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار، إذ لا يرى فاعلاً إلا الله، فلا يركن إلى شيء سواه‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «إنما أجرَى الأذى عليهم لئلا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يزعجك عن كل شيء، حتى لا تكون ساكناً إلى شيء»‏.‏ وقال بعض العارفين‏:‏ لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم، فطال عليهم الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏ وبهذا يأمر الشيخ أتباعه، فإن انقادوا لأحكام الحق، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والهداية بيد السميع البصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ إنما دخلت الفاء في خبر إنَّ؛ لتضمن اسمها معنى الشرط؛ لعموم الموصول وإبهامه، وهو خاص بإنَّ، دون ليت ولعل؛ لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء، وإنما تؤكده‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر‏:‏ ‏{‏أولئك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جّل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ بحُججه الدالة على توحيده، وصحة نبوة رسله، أو بكلامه، وهم اليهود، ‏{‏ويقتلون النبيين بغير حق‏}‏ بل بغياً ‏{‏ويقتلون الذين يأمرون‏}‏ بالعدل وترك الظلم من الأحبار ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ موجع، ‏{‏أولئك الذين حبطت أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ بطلت، ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ فلا ينتفعون بها في الدارين، ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ يمنعونهم من العذاب‏.‏

وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال‏:‏ سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيُّ النَّاسِ أشَدُّ عَذَاباً يَوْمَ القيامة‏؟‏ قال‏:‏ «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّاً، أو رَجل أمَرَ بالمُنكَر ونَهَى عن المَعْرُوفِ، ثم قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏ويقتلون النبيين بغير حق‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ يا أبَا عُبَيْدَةَ، قتلَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ ثلاثةً وأرْبَعِين نبيّاً أوَّل النَّهَار في سَاعَةٍ، فقام مائة وعشرون من عُبَّادِ بَني إسْرَائِيل فأَمرُوهم بالمَعرُوف ونَهوهُمْ عن المنكر، فقتلوهم جميعاً مِنْ آخِرِ النَّهارِ من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم في كتابه، وأنزل الآية فيهم» ه‏.‏ من الثعلبي‏.‏

الإشارة‏:‏ ذكر في الآية الأولى تشجيع المريدين، وأمرهم بالصبر والتسليم لإذاية المؤذين، وذكر هنا وبال المؤذين الجاحدين لخصوصية المقربين، فالأولياء والعلماء ورثة الأنبياء، فمن آذاهم فله عذاب أليم، في الدنيا؛ بغم الحجاب وسوء المنقلب، وفي الآخرة؛ بالبعد عن ساحة المقربين، وبالسقوط إلى دَرْكَ الأسفلين، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ التنكير في ‏{‏نصيب‏}‏؛ يحتمل التحقير والتعظيم، والأول أقرب‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وهم معرضون‏}‏؛ حال من ‏{‏فريق‏}‏؛ يتخصيصه بالصفة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد، أو مَنْ تصح منه الرؤية، ‏{‏إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ وهم‏:‏ اليهود، تمسكوا بشيء من التوارة، ولم يعملوا به كلّه، كيف ‏{‏يدعون إلى كتاب الله‏}‏ القرآن ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ فيما اختلفوا فيه من أمر التوحيد وصحة نبوته- عليه الصلاة والسلام-، فأعرضوا عنه، أو المراد بكتاب الله‏:‏ التوراة‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على جماعة من اليهود، فَدَعاهُمْ إلى الله تعالى، فقال نُعَيْمُ بْنُ عَمِرْو والحَارِثُ بَنْ زَيْد‏:‏ على أيِّ دين أنْتَ يا مُحَمَّدُ‏؟‏ قال‏:‏ «على مِلَّةِ إبْرَاهِيم» قالا‏:‏ إنَّ إبرَاهِيم كان يَهُودِيّاً، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فَهَلمُّوا إلى التَّوراةِ فهي بَيْنَنَا وبينكم» فأبَيا عليه، فنزلت الآية‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الرجم، على ما يأتي في العقود‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الأعراض بسبب اغترارهم وتسهيلهم أمر العقاب، فقالوا‏:‏ ‏{‏لن تسمنا النار إلا أياماً معدودات‏}‏؛ أربعين يوماً، قدر عبادتهم العجل، ثم يَخْلفهم المسلمون، ‏{‏وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏ بزعمهم الفاسد وطمعهم الفارغ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه‏}‏، وهذا تهويل لشأنهم، واستعظام لما يحيق بهم، ‏{‏ووفيت كل نفس ما كسبت‏}‏ من خير أو شر، ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي‏:‏ لا يبخسون من أعمالهم شيئاً، فلا ينقص من الحسنات، ولا يزاد على السيئات‏.‏ وفيه دليل على أن المؤمن لا يخلد في النار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أولُ رايةٍ تُرفع لأهل الموقف، ذلك اليوم، رايةُ اليهود، فيفضحُم اللّهُ تعالى على رؤوس الأشهاد، ثم يؤمر بهم إلى النار‏)‏‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً ممن ينتسب إلى العلم والدين ينطلق لسانه بدعوى الخصوصية، وأنه منخرط في سلك المقربين، فإذا دُعي إلى حق، أو وقف على عيب من عيوب نفسه، أعرض وتولى، وغرته نفسه، وغلبه الهوى، فجعل يحتج لنفسه بما عنده من العلم أو الدين، أو بمن ينتسب إليهم من الصالحين، فكيف يكون حاله إذا أقبل على الله بقلب سقيم، ورأى منازل أهل الصفا، الذين لقوا الله بقلب سليم، حين ترفع درجاتهم مع المقربين، ويبقى هو مع عوام أهل اليمين‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 47‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏اللهم‏}‏ منادى مبني على الضم، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق، وعوضت منها الميم المُؤْذِنة بالجمع، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فَرْقٌ، و‏{‏مالك‏}‏‏:‏ نعت لمحل المنادي؛ لأنه مفعول، ومنادى ثانٍ عند سيبويه، لأن الميم عنده تمتع الوصفية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد في استنصارك على عدوك‏:‏ ‏{‏اللهم‏}‏ يا ‏{‏مالك الملك‏}‏؛ مُلك الدنيا وملك الآخرة، ‏{‏تؤتي الملك‏}‏ والنصر ‏{‏من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء‏}‏، فهب لنا ملك الدارين، والنصر على الأعداء في كل أين، وانزع الملك من يد عدونا، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين‏.‏ قال قتادة‏:‏ ‏(‏ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عيله وسلم سأل ربه أن يجعل مُلك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏)‏‏.‏

‏{‏وتعز من تشاء‏}‏ بالإيمان والطاعة ‏{‏وتذل من تشاء‏}‏ بالكفر والمعصية، أو تعز من تشاء بالمعرفة، وتذل من تشاء بالفكرة، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع، وتذل من تشاء بالحرص والطمع، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان، ‏{‏بيدك الخير‏}‏ كله، فأعطنا من خيرك الجزيل، وأجرنا من الشر الوبيل، فالأمور كلها بيدك‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ذكر الخير وحده؛ لأنه المقضي بالذات، والشر مقضي بالعرض؛ إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيراً كليّاً‏.‏ أو لمراعاة الأدب في الخطاب، أو لأن الكلام وقع فيه، إذ رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام- لَمَّا خَطَّ الخَنْدَقَ، وقَطَعَ لكل عَشَرَة أربعينَ ذِرَاعاً، وأخذوا يَحْفرُون، فظهر فيه صخْرَةٌ عظيمةٌ لم تَعْمَلْ فيها المَعَاوِلُ، فَوَجَّهُوا سلْمَانَ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُخبرُه، فجاء عليه الصلاة والسلام، فأخذ المعْول منه، فَضَرب به ضَرْبَةً صدعَهَا، وَبَرَقَ مِنْهَا أضَاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها، لكأن مصباحاً في جوْف بَيتِ مُظلم، فكَبَّرَ، وكَبَّرَ معه المسلمونَ، وقال‏:‏ «أضَاءَتْ لي مِنْهَا قُصُور الحيرة، كأنها أنيابُ الكلاب،» ثم ضرب الثانية، فقال‏:‏ «أضَاءَتْ لي مِنْها القُصور الحمر من أرض الروم»، ثم ضرب الثالثة، فقال‏:‏ «أضاءت لي منها قُصُورُ صَنعاء، وأخْبرَنِي جِبْريل أنَّ أُمَّتِي ظَاهرةٌ علَى كُلِّها، فأبشروا»، فقال المنافقون‏:‏ ألا تَعْجَبُون‏!‏ يمنيكم ويعدكم الباطل، ويُخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحِيَرةِ، وأنَّها تُفْتحُ لَكُمْ، وأنتم إنما تَحْفُرون الخنْدَقَ مِنَ الفَرَق فنزلت، أي‏:‏ الآية‏.‏ ونبّه على أن الشر أيضاً بيده بقوله‏:‏ ‏{‏إنك على كل شيء قدير‏}‏‏.‏ ه‏.‏

ثم استدلّ على نفوذ قدرته بقوله‏:‏ ‏{‏تولج الليل في النهار‏}‏ أي‏:‏ تُدخل أحدَهما في الآخر بالتعقيب، أو بالزيادة أو النقص، فيولج الليل في النهار، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة، وفي الليل تِسْعٌ، ويُولج النهار في الليل، إذا طال الليل كذلك، وفيه دلالة على أن مَنْ قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل، والمُلك بنزعه‏.‏

‏{‏وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي‏}‏؛ كالحيوانات من النُّطَف، وبالعكس، والنباتات من الحبوب، وبالعكس، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل، وبالعكس، ‏{‏وترزق من تشاء‏}‏ من الأقوات والعلوم والأسرار، ‏{‏بغير حساب‏}‏، ولا تقدير ولا حصر‏.‏ اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر، ‏{‏إنك على كل شيء قدير‏}‏‏.‏

روى معاذ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «يا معاذُ، أتحبُّ أن يقضيَ اللّهُ عنك دَيْنك‏؟‏» قال‏:‏ نعم يا رسول الله، قال‏:‏ «قل» ‏{‏اللهم مالك الملك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بغير حساب‏}‏، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء اقضِ عني ديني، فلو كان عليك ملءُ الأرض ذهباً وفضة لأدَّاه الله عنك «‏.‏

ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه أنه قال‏:‏ الفاتحة، وآية الكرسي، و‏{‏شهد الله‏}‏، و‏{‏قل اللهم مالك الملك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ بغير حساب‏}‏، لمّا أراد الله أن ينزلهن، تعلقن بالعرش وقلن‏:‏ تهبطنا إلى دار الذنوب فقال الله عزّ وجلّ‏:‏» وعزّتي وجلالي لا يقرؤكن عبد، دبر كل صلاة مكتوبة، إلا أسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة، وأعززته من كل عدو، نصرته عليه‏.‏‏.‏‏.‏ «الحديث‏.‏ انظر الثعلبي‏.‏

الإشارة‏:‏ من ملك نفسه وهواه فقد ملكه الله ملك الدارين، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذلّه الله في الدراين ومن ملك نفسه لله فقد مكنه الله من التصرف في الكون بأسره، وكان حرّاً حقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

دَعَوْنِي لمُلْكِهم، فلمَّا أجبتُهم *** قالُوا‏:‏ دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ

ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله، قال الشاعر‏:‏

تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً *** فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَرْء بالذُّلِّ

إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ *** ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ

قال ابن المبارك‏:‏ ‏(‏قلت لسفيان الثوري‏:‏ من الناس‏؟‏ قال‏:‏ الفقهاء، قلت‏:‏ فمن الملوك‏؟‏ قال‏:‏ الزهادن قلت‏:‏ فمن الأشراف‏؟‏ قال‏:‏ الأتقياء، قلت‏:‏ فمن الغوغاء‏؟‏ قال‏:‏ الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس، قلت‏:‏ أخبرني ما السفلة‏؟‏ قال‏:‏ الظلمة‏)‏‏.‏ وقال الشبلي‏:‏ ‏(‏المُلك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين‏)‏‏.‏ وقال الوراق‏:‏ ‏(‏تُعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى، وتذل من تشاء باتباع الهوى‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وفي ذلك يقول البرعي رضي الله عنه‏:‏

لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا *** إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ

وقال وهب‏:‏» خرج الغِنَى والعز يجولان، فلقيا القناعة فاستقرا «‏.‏ وقال عيسى عليه السلام لأصحابه‏:‏ أنتم أغنى من الملوك، قالوا‏:‏ يا روح الله؛ كيف، ولسنا نملك شيئاً‏؟‏ قال‏:‏ أنتم ليس عنكم شيء ولا تريدونها، وهم عندهم أشياء ولا تكفيهم ه‏.‏

قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏

أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ *** فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ

دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي *** فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ

وقال آخر‏:‏

أَفَادتني القناعةُ كلَّ عزٍّ *** وهَلْ عِزٍّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَهْ

فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ *** وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ

تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ *** وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَهْ

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مِن أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِه، مُعَافى فِي بَدنه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بحذافيرها»‏.‏

تولج ليل القبض في نهار البسط، وتولج نهار البسط في ليل القبض، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار، بغير حساب ولا مقدار، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية، وتولج نهار الحرية في ليلة العبودية، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود، والعبد لا يخلو من هذين الحالين، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تُقاة‏}‏‏:‏ مصدر تَقَى، على وزن فَعَل، وله مصدران آخران‏:‏ تُقّى وتَقِيَّة- بتشديد الياء-، وبه قرأ بعقوب، وأصله‏:‏ تُقِيَة، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها‏.‏ و‏{‏يوم‏}‏‏:‏ ظرف، والعامل فيه‏:‏ اذكر، أو اتقوا، أو المصير، أو تود، و‏{‏ما عملت‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏تود‏}‏‏:‏ خبر، أو معطوف على ‏{‏ما عملت‏}‏ الأولى، و‏{‏تود‏}‏‏:‏

حال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله، لقوم من الأنصار، كانوا يُوالون اليهود؛ لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية‏:‏ ‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء‏}‏، أي‏:‏ أصدقاء، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره، فلا تودوهم ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏؛ إذ هم أحق بالمودة، ففيهم مَنْدُوحة عن مولاة الكفرة، ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ الاتخاذ ‏{‏فليس من‏}‏ ولاية ‏{‏الله في شيء‏}‏؛ إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمِّ تَزْعُمُ أنَّني *** صَدِيقكَ، لَيْسَ النّوْك عَنْكَ بِعَازِبِ

والنُّوك- بضم النون-‏:‏ الحُمْق‏.‏

فلا تُوالوا الكفار ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ أيْ‏:‏ إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً، والبعد منهم بطناً، كما قال عيسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏كن وَسَطاً وامْشِ جانباً‏)‏‏.‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا تَثْلُموه‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ أي‏:‏ يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، تقول العرب‏:‏ احذرنا فلاناً‏:‏ أي‏:‏ ضرره لا ذاته، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة، ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏؛ فيحسر كل قوم مَن أحب‏.‏

‏{‏قل إن تخفوا ما في صدوركم‏}‏ من موالاة أعدائه، ‏{‏أو تبدوه يعلمه الله‏}‏؛ فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر‏.‏ وقدَّم في سورة البقرة الإبداء، وأخره هنا؛ لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر، وأخره في البقرة، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها، ‏{‏ويعلم ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ فلا يخفى عليه شيء، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏؛ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا، والآية بيان لقوله‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏؛ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات، فلا تجسروا على عصيانه، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة‏.‏

‏{‏يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً‏}‏ بين يديها تنتفع به، ‏{‏وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً‏}‏، كما بين المشرق والمغرب، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم‏.‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏، كرره للتأكيد وزيادة التحذير، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره، ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ حيث حذرهم مما يضرهم، وأمرهم بما يقربهم، فكل ما يصدر منه- سبحانه- في غاية الكمال‏.‏

الأشارة‏:‏ لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة، ولا يتودد معه؛ فإن ذلك يقطعه عن ربه، ويصده عن دواء قلبه، وفي ذلك يقول صاحب العينية‏:‏

وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ *** فَمَا وَاصَلَ العُذْالَ إلاَّ مُقَاطِعُ

وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ *** لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع

فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ *** وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ

إلا أن يتقي منهم تقية، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه، وقد حذَّر الصوفية من صحبة أرْبَع طوائف‏:‏ الجبابرة المتكبرون، والقراء المداهنون، والمتفقرة الجاهلون، والعلماء المتجمدون؛ لأنهم مُولَعون بالطعن على أولياء الله، يرون ذلك قربة تُقربهم إلى الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبة بقوله‏:‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ أي‏:‏ إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال‏:‏ ‏{‏إن تُخفوا ما في صدوركم‏}‏ من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، ‏{‏أو تبدوه يعلمه الله‏}‏؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، ‏{‏يوم تجد كل نفس‏}‏ ما قدمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة‏.‏ ثم خاطب الواصلين فقال‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يتسطع، إذ لا غير معه حتى يشهده‏.‏ ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين‏.‏ خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه‏.‏

ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قد تقدم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله‏:‏ ‏{‏يحبونهم كحب الله‏}‏‏.‏ وقال البيضاوي هنا‏:‏ المحبة ميلُ النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه، بحيث يحملها- أي الميل- إلى ما يقربها إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وأن ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله، لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، فلذلك فُسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته، والحرص على مطاوعته‏.‏ ه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏‏:‏ فعل ماض مجزوم المحل، ولم يدغمه البَزِّي هنا، على عادته في الماضي، لعدم موجبه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لمن يدّعي أنه يحب الله ولا يتبع رسوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تحبون الله‏}‏ كما زعمتم، ‏{‏فاتبعوني‏}‏ في أقوالي وأفعالي وأحوالي، ‏{‏يحببكم الله‏}‏ أي‏:‏ يرضى عنكم ويقربكم إليه، ‏{‏ويغفر لكم ذنوبكم‏}‏ أي‏:‏ يكشف الحجاب عن قلوبكم بغفران الذنوب ومحو العيوب، فيقربكم من جناب عزه، ويبوئكم في جِوار قدسه، ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ لمن تحبب إليه بطاعته واتباع رسوله‏.‏

‏{‏قل أطيعوا الله‏}‏ فيما يأمركم به وينهاكم عنه، ‏{‏والرسول‏}‏ فيما يَسُنه لكم ويرغبكم فيه، ‏{‏فإن تولوا‏}‏ وأعرَضوا عنه، فقد تعرضوا لمقت الله وغضبه بكفرهم به؛ ‏{‏فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏ أي‏:‏ لا يرضى عنهم ولا يقبل عليهم، وإنما لم يقل‏:‏ لا يحبهم؛ لقصد العموم، والدلالة على أن التولي عن الرسول كفر، وأنه بريء من محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين‏.‏

رُوِيَ أن نصارى نجران قالوا‏:‏ إنما نعظم المسيح ونعبده، حباً لله وتعظيماً لله‏.‏ فقال تعال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏إن كنتم تحبون الله‏}‏ تعالى ‏{‏فاتبعوني‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ ولما نزلت الآية قال عبد الله بن أُبَيّ لأصحابه‏:‏ إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا الله والرسول‏}‏ الآية‏.‏ وقال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «» مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، ومن أَطَاعَ الإمامَ فَقدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله وَمَنْ عصَى الإمامَ فَقَدْ عَصَانِي «‏.‏

الإشارة‏:‏ اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم رُكن من أركان الطريقة، وشرط في إشراق أنوار الحقيقة، فمن لا اتباع له طريق له، ومن لا طريق له لا وصول له، قال الشيخ زروق رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أصول الطريقة خمسة أشياء‏:‏ تقوى الله في السر والعلانية، واتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضرء، والرضى عن الله في القليل والكثير‏)‏‏.‏

فالرسول- عليه الصلاة والسلام- حجاب الحضرة وبَوَّابُها، فمن أتى من بابه؛ بمحبته واتباعه، دخل الحضرة، وسكن فيها، ومن تنكب عنها طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

وأنتَ بابُ الله، أيُّ امرِىءٍ وَافَاه مِنح غَيْرِكَ لاَ يدْخُلُ

وقال في المباحث‏:‏

تَبِعَه العالِمُ في الأقوال، *** والعابدُ الزاهدُ في الأفْعَالِ

وفيهما الصُّوفيُّ في السِّباق *** لكنَّه قد زاد في الأخْلاَقِ

فمن ادّعى محبة الله أو محبة رسوله، ولم يطعهما، ولم يتخلق بأخلاقهما، فدعواه كاذبة، وفي ذلك يقول ابن المبارك‏:‏

تَعْصِي الألَه وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ *** خَذَا محَالٌ في الْقِيَاسِ بَدِيعُ

لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ *** إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

ثم ذكر الحق تعالى بيان نشأة عيسى عليه السلام، وبيان أصله ونشأة أمه، توطئة للكلام مع النصارى والرد عليهم في اعتقادهم فيه‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ لما أوجب الله طاعة الرسل، وبيَّن أنها الجالبة لمحبة الله، عقَّب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً عليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ذرية‏}‏‏:‏ حال، أبو بدل من الآلين، أو من نوح، أي‏:‏ أنهم ذرية واحد متشعبة بعضها من بعض‏.‏ و‏{‏إذ قالت‏}‏‏:‏ ظرف لعليم، أو بإضمار اذكر‏.‏ و‏{‏محرراً‏}‏‏:‏ حال، والتحرير‏:‏ التخلص، يقال‏:‏ حررت العبد، إذا خلصته من الرق، وحررت الكتاب، إذا أصلحته وأخلصته، ولم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاح، ورجل حُر، أي‏:‏ خالص، ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحُر، أي‏:‏ الخالص من الحمأة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإني سميتها مريم‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏إني وضعتها‏}‏، وما بينهما اعتراض، من كلامها على قراءة التكلم، أو من كلام الله على قراءة التأنيث‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم‏}‏؛ بالخلافة والرسالة، ‏{‏ونوحاً‏}‏؛ بالرسالة والنِّذَارة، ‏{‏وآل إبراهيم‏}‏؛ بالنبوة والرسالة، وهم‏:‏ إسحاق، ويعقوب والأسباط، وإسماعيل، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة‏.‏ ‏{‏وآل عمران‏}‏، وهم موسى وهارون- عليهما السلام- وهو عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب، أو المراد بعمران‏:‏ عمران بن أشهم بن أموي، من ولد سليمان عليه السلام، وهو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل‏:‏ المراد عمران بن ماثان، أحد أجداد عمران والد مريم‏.‏ وإنما خصّ هؤلاء؛ لأن الأنبياء كلهم من نَسْلهم‏.‏ وقيل‏:‏ أراد إبراهيم وعمران أنفسهما‏.‏ «وآل» مقحمة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 248‏]‏ أي‏:‏ موسى وهارون، فقد فضل الحقّ- جلّ جلاله- هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية ‏{‏على العالمين‏}‏ أي‏:‏ كلاً على عَالَمِي زمانه، وبه استدلّ على فضلهم على الملائكة‏.‏ حال كونهم ‏{‏ذرية‏}‏ متشعبة ‏{‏بعضها من‏}‏ ولد ‏{‏بعض‏}‏ في النسب والدين، ‏{‏والله سميع‏}‏ لأقوال العباد وأعمالهم، ‏{‏عليم‏}‏ بسرائرهم وعلانيتهم، فيصطفي من صفا قوله وعمله، وخلص سره، للرسالة والنبوة‏.‏

ثم تخلًّص لذكر نشأة مريم، توطئة لذكر ولدها، فقال‏:‏ واذكر ‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏}‏ وهي حنة بنت فاقوذا، جدة عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً‏}‏ لخدمة بيت المقدس، لا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة، ‏{‏فتقبل مني إنك أنت السميع العليم‏}‏، وكان المحرر عندهم، إذا حُرر، جُعل في الكنيسة يقوم عليها وينكسها، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، ثم يُخَيَّر، فإن أحبَّ أقام أو ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلا الغلمان؛ لأن الجارية لا تصلح للخدمة؛ لما يصيبها من حيض، فحررت أمُّ مريمَ حمْلَها تَدْرِ ما هو‏.‏

وقصة ذلك‏:‏ أن زكريا وعمران تزوجا أختين، فتزوج زكريا أشياعَ بنت فاقوذا، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة، وكانت حنة عاقراً لا تلد، فبينما هي في ظل شجرة، بصُرت بطائر يطعم فرخاً‏.‏ فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت الله تعالى، وقالت‏:‏ اللهم لك علي، إن رزقتني ولداً، أن أتصدق به على بيت المقدس، يكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم، فهلك عمران، وحنة حامل بمريم، ‏{‏فلما وضعتها‏}‏ أي‏:‏ النذيرة، أو ما في بطنها، قالت‏:‏ ‏{‏ربِّ إني وضعتها أنثى‏}‏، قالت ذلك تحسّراً وتحزناً إلى ربها، لأنها كانت ترجوا أن تلد ذكراً يصلح للخدمة، ولذلك نذرته‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما وضعت‏}‏، تعظيماً لموضوعها وتنويهاً بشأنها، أو من كلامها- على قراءة التكلم- تسلية لنفسها، أي‏:‏ ولعل لله فيه سرّاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ أي‏:‏ وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، أو من كلامها، أي‏:‏ وليس الذكر والأنثى سيان فما نذرتُ‏.‏ ثم قالت‏:‏ ‏{‏وإني سميتها مريم‏}‏ راجية أن يطابق اسمُها فعلها، فإن مريم في نعتهم في العابدة الخادمة، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حَسْبُكَ من نساءِ العالمين أربع‏:‏ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم»‏.‏

ثم قالت حنة أم مريم‏:‏ ‏{‏وإني أعيذها بك‏}‏ أي‏:‏ أحصنها بك ‏{‏وذريتها من الشيطان الرجيم‏}‏ أي‏:‏ المرجوم بالشهب، أو المطرود، وفي الحديث‏:‏ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَد فَيَسْتَهِلُّ مِنْ مَسِّهِ، إلاَّ مَرْيَمَ وابْنهَا» ومعناه‏:‏ أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود، بحيث يتأثر به، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة، قلت‏:‏ وكذا الأنبياء كلهم، لا يمسهم لمكان العصمة‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏{‏فتقبلها ربها‏}‏ أي‏:‏ رَضِيَها في النذر مكان الذكَر، ‏{‏بقبول حسن‏}‏ أي‏:‏ بوجه حسن، وهو إقامتها مقام الذكر، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسِّدانة، رُوِي‏:‏ أن حنة لما ولدتها لفَّتْها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار، وقالت‏:‏ دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها، فأنها كانت ابنة إمامهم، وصاحب قربانهم، فإن ‏(‏بني ماثان‏)‏ كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال زكريا‏:‏ أنا أحق بها، عندي خالتها، فأبوا إلا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريا- أي‏:‏ علا- على وجه الماء، ورسبت أقلامهم، فأخذها زكريا‏.‏

‏{‏وأنبتها‏}‏ الله ‏{‏نباتاً حسناً‏}‏ أي‏:‏ رباها تربية حسنة، فكانت تشب في اليوم ما يشب المولود في العام، ‏{‏وكفلها زكريا‏}‏ أي‏:‏ ضمها إليه وقام بأمرها‏.‏ وقرأ عاصم- في رواية ابن عياش- بشدِّ الفاء، أي‏:‏ وكفَّلها اللّهُ زكريا، أي‏:‏ جعله كافلاً لها وحاضناً‏.‏ رُوِيَ‏:‏ أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتاً، واسترضع لها، فلما بلغت، بنى لها محراباً في المسجد، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب‏.‏

‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب‏}‏؛ ليأتيها بطعامها، ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ أي‏:‏ فاكهة في غير حينها، يجد فاكهة الشتاء في الصيف، وبالعكس، ‏{‏قال يا مريم أنى لك هذا‏}‏ أي‏:‏ من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه، والأبواب مغلقة عليك‏؟‏ ‏{‏قالت هو من عند الله‏}‏ فلا يُستبعد، قيل‏:‏ تكلمت صغيرة، وقيل‏:‏ لم ترضع ثدياً قط، خلاف ما تقدم، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة‏.‏

ثم قالت‏:‏ ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ أي‏:‏ بغير تقدير، أو بغير استحقاق تفضلاً منه، وقوله‏:‏ ‏{‏كلما‏}‏‏:‏ يقتضي التكرار، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يَذَرْ تَعهُّدهَا، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها، بل كان يتفقد حالها كل وقت، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعاً، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائماً وألا يظهر، فما كان زكريا معتمداً على ذلك، فيترك تفقد حالها، ثم كان يجدد السؤال بقوله‏:‏ ‏{‏يا مريم أنى لك هذا‏}‏، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمسن فإنه لا واجب على الله- سبحانه- قاله القشيري‏.‏

رَوى جابر بنُ عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم الطعام، فقام في منازل أزواجه، فلم يُصِبْ عندهم شيئاً، فأتى فاطمة فقال‏:‏ «يا بُنيةُ، هل عندك شيء‏؟‏» فقالت‏:‏ لا والله، بأبي أنت وأمي، فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، بعثت إليها جارتُها برَغِيفَيْن وبِضْعَة لَحْم، فبعثت حَسَناً وحُسَيْناً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء، فكشفت له الجفنة، فإذا الجفنة مملوءة خُبْزاً ولَحْماً، فَبُهِتَتْ، وعرفت أنَّهَا بَرَكَةٌ مِن اللهِ تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أين لك هذا يا بُنَيْةُ‏؟‏» قالت‏:‏ ‏{‏من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏، فحمد الله تعالى، وقال‏:‏ «الحمْدُ للّهِ الَّذِي جَعلَك شَبِيهَةً بسَيِّدَةِ بَنِي إسْرَائِيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً قالت‏:‏ ‏{‏هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏» ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عَليٍّ رضي الله عنه‏.‏ ثم أكل أهلُ البيت كلهم، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقيت الجَفْنة كما هي، فأَوْسَعَتْ علَى الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً‏.‏ انتهى‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏}‏، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل؛ لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره، وجددوه بعد خمود أسراره، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية، بحيث يجدد للناس دينهم، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه‏.‏

وفي الحيدث‏:‏ «إنَّ الله يَبْعَثُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذه الأمة دِينَهَا» قال الحريري‏:‏ ‏(‏مات الحسن البصري عشية جمعة- أي‏:‏ بعد زوالها- فلما صلّى الناس الجمعة حملوه، فلم يترك الناس صلاة العصر في مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام، إلا يوم مات الحسن، واتبع الناس جنازته، فلم يحضر أحد في المسجد صلاة العصر، قال‏:‏ وسمعت منادياً ينادي‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏}‏، واصطفى الحسن على أهل زمانه‏.‏ قلت‏:‏ والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوّف، وتكلم فيه وهذبه‏.‏ قال في القوت‏:‏ وهو إمامنا في هذا العلم- يعني علم التصوف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ كُلُّ من ذنر نفسه وحررها لخدمة مولاه، تقبلها الله منه بقبول حسن، وأنبت فيها المعرفة نباتاً حسناً، وكفلها بحفظه ورعايته، وضمها إليه بسابق عنايته، ورزقها من طُرَفِ الحكم وفواكه العلوم، مما لا يتحيط به العقول وغاية الفهوم، فإذا قال لنفسه‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ ‏{‏قالت‏:‏ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏‏.‏ وأنشدوا‏:‏

فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه *** سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ

وقال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏}‏، يقال‏:‏ منَ القبول الحسن أنه لم يطرح كَلَّهَا وشَغْلَهَا على زكريا، فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعاهدها بطعام وجد عندها رزقاً، ليعلَم العالمون أن الله- تعالى- لا يُلقى شغل أوليائه على غيره، ومن خدم وليّاً من أوليائه كان هو في رفق الولي، وهذه إشارة لمن يخدم الفقراء، يعلم أنه في رفقهم، لا أن الفقراء تحت رفقه‏.‏ ه‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ فلما رأى زكريا ما يأتي لمريم من الفواكه في غير أوانها، قال‏:‏ إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها، قادر على أن يصلح زوجتي، ويهب لي ولداً على الكبر‏.‏ فطلب الولد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏‏:‏ اسم إِشارة للبعيد، والكاف‏:‏ حرف خطاب، يطابق المخاطب في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع في الغالب‏.‏ والمحراب‏:‏ مفعال، من الحرب، وهو الموضع المعد للعبادة، كالمسجد ونحوه، سمي به، لأنه محل محاربة الشيطان‏.‏

‏{‏والملائكة‏}‏‏:‏ جمع تكسير، يجوز في فعله التذكير والتأنيث، وهو أحسن، تقول‏:‏ قام الرجال وقامت الرجال، فمن قرأ‏:‏ ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏، فعلى تأويل الجماعة، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏فناداه‏}‏، أراد تنزيه الملائكة عن التأنيث، ردّاً على الكفار‏.‏ والمراد هنا‏:‏ جبريل عليه السلام كقوله‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 42‏]‏، و‏{‏بشر‏}‏‏:‏ فيها لغتان‏:‏ التخفيف، وهي لغة تهامة، تقول‏:‏ بَشَرَ يَبْشُر- بضم الشين في المضارع، والتشديد، وهو أفصح، تقول بَشْر يُبَشّر تبشيراً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مخبراً عن زكريا عليه السلام‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏ أي‏:‏ في ذلك الوقت الذي رأى من الخوارق عند مريم، ‏{‏دعا زكريا ربه‏}‏، فدخل المحراب، وغلق الأبواب، وقال في مناجاته‏:‏ ‏{‏ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏، كما وهبتها لحنَّة العجوز العاقر، ‏{‏إنك سميع الدعاء‏}‏ أي‏:‏ مجيبه فاسمع دعائي يا مجيب، ‏{‏فنادته الملائكة‏}‏، وهو جبريل، لأنه رئيس الملائكة، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجميع؛ إذ لا يخلو من أصحاب، ‏{‏وهو قائم يصلي في المحراب‏}‏ رُوِيَ‏:‏ أنه كان قائماً يصلّي في محرابه، فدخل عليه شاب، عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وقال له‏:‏ ‏{‏إن الله يبشرك بيحيى‏}‏، سمي به؛ لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته، فلم يهم بمعصية قط، أو لأنه استشهد، والشهداء أحياء‏.‏

‏{‏مصدقاً بكلمة من الله‏}‏ وهو عيسى، لأنه كان بكلمة‏:‏ كُنْ، من غير سبب عادي، و‏{‏سيداً‏}‏ أي‏:‏ يسود قومه يوفُوقهم، و‏{‏حصوراً‏}‏، أي‏:‏ مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي‏.‏ رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان، فدعوه إلى اللعب، فقال‏:‏ ما للعب خلقت، أو عِنِّيناً، رُوِيَ‏:‏ «أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة» رواه ابن عباس‏.‏ وقال في الأساس‏:‏ ‏(‏رجل حصور‏:‏ لا يرغب في النساء‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وفي الورتجبي‏:‏ الحصور‏:‏ الذي يملك ولا يُملك‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ‏{‏حصوراً‏}‏‏:‏ أي‏:‏ مُعْتَقاً من الشهوات، مَكْفِيّاً أحكام البشرية، مع كونه من جملة البشر، ‏{‏ونبيّاً من الصالحين‏}‏ الذي صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة‏.‏

ولما سمع البشارة هزَّه الفرحُ فقال‏:‏ يا ‏{‏رب أنى يكون لي غلام‏}‏ أي‏:‏ من أين يكون لي غلام‏؟‏‏!‏ قاله استعظاماً أو تعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه‏.‏ هل مع كبر السن والعقم، أو مع زوالهما‏.‏ ‏{‏وقد بلغني الكبر‏}‏، وكان له تسع وتسعون سنة، وقيل‏:‏ مائة وعشرون، ‏{‏وامرأتي عاقر‏}‏ لا تلد، ولم يقل‏:‏ عاقرة، لأنه وصف خاص بالنساء‏.‏

قال له جبريل‏:‏ ‏{‏كذلك الله يفعل ما يشاء‏}‏ من العجائب والخوارق، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني، أو الأمر كذلك، أي‏:‏ كما أخبرتك، ثم استأنف‏:‏ ‏{‏الله يفعل ما يشاء‏}‏‏.‏

ولما تحقق بالبشارة طلبَ العلامةَ، فقال‏:‏ ‏{‏رب اجعل لي آية‏}‏ أعرف بها حمل المرأة، لاستقبله بالبشاشة والشكر، ‏{‏قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام‏}‏ أي‏:‏ لا تقدر على كلام الناس ثلاثاً، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر، ليخلص المدة للذكر والشكر، ‏{‏إلا رمزاً‏}‏ بيدٍ أورأس أو حاجب أو عين‏.‏ ‏{‏واذكر ربك كثيراً‏}‏ في هذه المدة التي حبِسْتَ فيها عن الكلام، وهو يُبين الغرض من الحبس عن الكلام‏.‏ وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار‏.‏ ‏{‏وسبّح بالعشي‏}‏ أي‏:‏ من الزوال إلى الغروب، أو من العصر إلى جزء الليل، ‏{‏والإِبكار‏}‏؛ من الفجر إلى الضحى، وقيل‏:‏ كانت صلاتهم ركعتين في الفجر وركعتين في المغرب، ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَأْوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية، منها ما تكون عقيمة مع كمالها، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السلام‏:‏ طلب الولد؛ إذا خاف الولي اندراس علمه أو حاله بانقطاع نَسْله الروحاني، ولا شك في فضل بقاء النسل الحسيّ أو المعنوي، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عمله إلا مِنْ ثَلاَثٍ‏:‏ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُوا لَهُ، أوْ عِلَم يُنْتَفَعُ به» وشمل الولد البشري والروحاني، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدنا عليّ- كَرّم الله وجهه-‏:‏ «لأنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْر النَعَمِ»‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏

وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ *** فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد

وقد سلَك هذا المسلك القطبُ بن مشيش في طلب الولد الروحاني، حيث قال في تَصْلِيَته المشهورة‏:‏ ‏(‏اسمه ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا‏)‏‏.‏ فأجابه الحق تعالى بشيخ المشايخ القطب الشاذلي‏.‏ وغير واحد من الأولياء دخل محراب الحضرة، ونارى نداءً خفيّاً في صلاة الفكر، فأجابته الهواتف في الحال، بلسان الحال أو المقال‏:‏ إن الله يبشرك بمن يحيي علمك ويرث حالك، مصدقاً بكلمة من الله، وهم أولياء الله، وسيداً وحصوراً عن شواغل الحس، مستغرقاً في مشاهدة القرب والأنس، ينبئ بعلم الغيوب، ويصلح خلل القلوب، فإذا استعظم ذلك واستغربه، قيل له‏:‏ الأمر كذلك، ‏(‏الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون‏)‏، فحسبك الاشتغال بذكر الله، والغيبة عما سواه‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إذ قالت الملائكة‏}‏ أي‏:‏ جبريل، أو جماعة، كلمتها شفاهاً؛ كرامةً لها‏.‏ وفيه إثبات كرامة الأولياء، وليست نبية؛ للإجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 7‏]‏ فقالوا لها‏:‏ ‏{‏يا مريم إن الله اصطفاك‏}‏ لخدمة بيته، ولم يقبل قبلك أنثى قط، وفرغك لعبادته، وأغناك برزقه عن رزق غيره، ‏{‏وطهرك‏}‏ من الأخلاق الذميمة، ومما يستقذر من النساء، ‏{‏وصطفاك‏}‏ ثانياً بهدايته لك، وتخصيصك بتكليم الملائكة، وبالبشارة بالولد من غير أب، فقد اصطفاك ‏{‏على نساء العالمين‏}‏‏.‏

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَرْيَمَ ابنةَ عِمْرَانَ، وآسِيَةَ بنت مزاحِم وخديجة بنت خويلد»‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ قال ابن عزيز‏:‏ أي‏:‏ عالمي دهرها، كما فُضِّلَتْ خديجة وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل قال أبو عمر‏:‏ فاطمة فُضلت على جميع النساء، وهو واضح، لحديث‏:‏ سيدة نساء أهل الجنة، لكن جاء في حديث آخر استثناء مريم‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وفي الاستيعاب‏:‏ عن عمران بن حصين‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة، وهي مريضة، فقال‏:‏ «كيف تجدك يا بُنَيَّةُ‏؟‏» فقالت له‏:‏ إني لوجعة، وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله، فقال‏:‏ «يا بُنَيِّةُ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين»، فقالت‏:‏ يا أبت، فأين مريم بنت عمران‏؟‏ قال‏:‏ «تلك سيدةُ نُساءِ عالمها، وأنت سيدة عالمك، والله لقد زوجتك سيّداً في الدنيا والآخرة» ه‏.‏ من المحشي‏.‏

‏{‏يا مريم اقنتي لربك‏}‏ أي‏:‏ أطيلي الصلاة شكراً لما اختصك به، ‏{‏واسجدي واركعي مع الراكعين‏}‏ أي‏:‏ صلِّي مع المصلين، وقدَّم السجود على الركوع، أما لكونه كذلك في شرعهم، أو للتنبيه على أن الواو لا ترتب، أو ليقترن ‏{‏اركعي‏}‏ بالراكعين، للإيذان بأنَّ من ليس في صلاتهم ركوعٌ ليسوا بمصلين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالقنوت‏:‏ إدامة الطاعة، كقوله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، وبالسجود، الصلاة، لقوله‏:‏ ‏{‏وإدبار السجود‏}‏، وبالركوع‏:‏ الخشوع والإخبات‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ لما قالت لها الملائكة ذلك، قامت في الصلاة حتى تورمت قدمها وسالت دماً وقَيْحاً‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يصطفي الله العبدَ لحضرته إلا بعد تطهيره من الرذائل، وتحليته بأنواع الفضائل، وقطعه عن قلبه الشواغل، والقيام بوظائف العبودية، وبالآداب مع عظمة الربوبية، والخضوم تحت مجاري الأقدار، والتسليم لأحكام الواحد القهار، فأنفاس المريد ثلاثة‏:‏ عبادة، ثم عبودية، ثم عبودة، ثم يترقى إلى مطالعة علم الغيوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لحبيبه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ القصص الذي أطلعتك عليه، هو ‏{‏من‏}‏ أخبار ‏{‏الغيب‏}‏ الذي لم يكن لك به شعور، وما عرفته إلا بوحينا وإعلامنا، فلا يشك في نبوتك إلا مطموس أعمى، ‏{‏و‏}‏ أيضاً‏:‏ ‏{‏ما كنت لديهم‏}‏ أي‏:‏ عندهم، حين كانوا ‏{‏يلقون أقلامهم‏}‏ لما اقترعوا، ‏{‏أيهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون‏}‏ في كفالتها، فتخبرهم عما شهدت، بل لم يكن شيء من ذلك، فتعين أن يكون وحياً حقيقيّاً، لأنه عليه الصلاة والسلام- كان أمياً لم يطالع شيئاً من كتب الأخبار، ولا جلس إلى من طالعهم من الأحبار، بإجماع الخاص والعام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الوحي على أربعة أقسام‏:‏ وحي منام، ووحي إلهام، ووحي أحكام، ووحي إعلام، وشاركت الأولياءُ الأنبياءَ في ثلاثة‏:‏ الإلهام والمنام والإعلام، إن كان بغير الملَك، ومعنى وحي إعلام‏:‏ هو إطلاع الله النبيّ على أمور مغيبة، فإن كان بواسطة الملك، فهو مختص بالأنبياء، كما اختصت بوحي الأحكام، وأما إن كان بالإلهام أو بالمنام أو بالفهم عن الله، فيكون أيضاً للأولياء، إذ الروح إذا اتصفت وتطهرت من دنس الحس أطلعها الله على غيبه في الجملة، وأما التفصيل فلا يعلمه إلا علاّم الغيوب، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 51‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ قالت‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏وإذ قالت‏}‏ الأولى، ويبعد إبدالها من ‏{‏إذ يختصمون‏}‏، و‏{‏المسيح‏}‏ وما بعده‏:‏ إخبار عن اسمه، أو ‏{‏عيسى‏}‏‏:‏ خبر عن مضمر، و‏{‏ابن مريم‏}‏‏:‏ صفته، و‏{‏المسيح‏}‏‏:‏ فعيل بمعنى مفعول، لأنه مُسِحَ من الأقذار، أي‏:‏ طهر منها، أو مسح بالبركة، أو كان مسيح القدم، لا أخمص له، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان‏.‏ أو بمعنى فاعل؛ لأنه كان يمسح المرضى فيبرؤون، أو يمسح عين الأعمى فيبصر، أو لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان؛ فتكون الميم زائدة‏.‏

وأما المسيح الدجّال فإنه ممسوح إحدى العينين، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها، إلا مكة والمدينة، والحاصل‏:‏ أن عيسى مسيح الخير، والدجال مسيح الشر، ولذلك قيل‏:‏ إن المسيح يقتل المسيح‏.‏ و‏{‏وجيهاً‏}‏‏:‏ حال من كلمة؛ لتخصيصه بالصفة، و‏{‏في المهد وكهلاً‏}‏‏:‏ حالان، أي‏:‏ طفلاً وكهلاً، والمهد‏:‏ ما يمهد للصبي‏.‏ و‏{‏رسولاً‏}‏‏:‏ مفعولٌ لمحذوف، أي‏:‏ ونجعله رسولاً، و‏{‏مصدقاً‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏رسولاً‏}‏، و‏{‏لأُحِلَّ‏}‏‏:‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ وجئتكم لأُحل، أو معطوف على معنى مصدقاً، كقولهم‏:‏ جئتك معتذراً، أو لأطيب قلبك‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر أيضاً ‏{‏إذ قالت الملائكة‏}‏ في بشارتهم لمريم‏:‏ ‏{‏يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه‏}‏، أي‏:‏ بولد يتكوَّن بكلمة من الله؛ كن فيكون، وقيل‏:‏ إنما سمى كلمة؛ لكونه مظهراً لكلمة التكوين، متحققاً ومتصرفاً بها‏.‏ ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء، ‏{‏اسمه المسيح‏}‏، واسمه ‏{‏عيسى ابن مريم‏}‏، وإنما قال‏:‏ ‏{‏ابن مريم‏}‏ والخطاب لها، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب؛ إذ الأولاد إنما تنسب لأبائها إلا إذا فقد الأب‏.‏ ثم وصف الولد بقوله‏:‏ ‏{‏وجيهاً في الدنيا والآخرة‏}‏ أي‏:‏ شريفاً في الدنيا بالنبوة والرسالة، وفي الآخرة بالشفاعة لمن تبعه‏.‏ ويكون ‏{‏من المقربين‏}‏ إلى الله تعالى في الدارين‏.‏

‏{‏ويكلم الناس‏}‏ طفلاً ‏{‏في المهد‏}‏ على وجه خَرْق العادة في تبرئة أمه، ‏{‏وكهلاً‏}‏ إذا كمل عقله قبل أن يرفع، أو بعد الرفع والنزول، لأن الكهولة بعد الأربعين، والتحقيق‏:‏ أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه في المهد، معجزةً، وفي الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده، وما قاربَ يُعطي حكمه، وحال كونه ‏{‏من الصالحين‏}‏ لحضرة رب العالمين‏.‏

ولما سمعت البشارة دهشت و‏{‏قالت‏}‏‏:‏ يا ‏{‏رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر‏}‏، والخطاب لله، فانية عن الواسطة جبريل، والاستفهام تعجباً، أو عن الكيفية‏:‏ هل يكون بتزوج أم لا‏؟‏ ‏{‏قال‏}‏ لها الملك‏:‏ ‏{‏كذلك الله يخلق ما يشاء‏}‏‏.‏ أو الأمر كذلك كما تقولين، لكن ‏{‏الله يخلق ما يشاء‏}‏؛ لا يحتاج إلى وسائط ولا أسباب، بل ‏{‏إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون‏}‏، ‏{‏ويعلمه الكتاب‏}‏ أي‏:‏ الكتابة والخط، ‏{‏والحكمة‏}‏ أي‏:‏ النبوة، أو الإصابة في الرأي‏:‏ ‏{‏والتوراة والإنجيل‏}‏‏.‏

‏{‏و‏}‏ يجعله ‏{‏رسولاً إلى بني إسرائيل‏}‏‏.‏ وكان أول رسل بني إسرائيل يوسف، وآخرهم عيسى- عليهما السلام-، وقال‏:‏ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «بُعثْتُ على إِثْرِ ثمانية آلاف نبيّ، أربعة آلاف من بني إسرائيل» فإذا بعث إليهم قال‏:‏ ‏{‏أني قد جئتكم بآية من ربكم‏}‏ أي‏:‏ بأني قد جئتكم آية من ربكم، قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير‏}‏؛ كصورته، ‏{‏فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله‏}‏، وكان يخلق لهم صورة الخفاش، لأنها أكمل الطير؛لأن لها ثدياً وأسناناً وتحيض وتطير، فيكون أبلغ في المعجزة، وكان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل الحق من فعل الخلق،

ثم قال لهم‏:‏ ولي معجزة أخرى؛ أني ‏{‏أبرئ الأكمه‏}‏ الذي ولد أعمى، فأحرى غيره ‏{‏والأبرص‏}‏ الذي فيه وضح‏.‏ وخصهما؛ لأنهما عاهتان معضلتان‏.‏ وكان الغالب في زمن عيسى الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك‏.‏ رُوِي‏:‏ أنه ربما اجتمع عليه من المرضى في اليوم الواحد ألوف، من أطاف منهم البلوغ أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام‏.‏

‏{‏وأحيي الموتى بإذن الله‏}‏ لا بقدرتي دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإحياء ليس من طوق البشر‏.‏ رُوِيَ أنه أحيا أربعة أنفس‏:‏ ‏(‏العازر‏)‏، وكان صديقاً له، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات، فقال لأخته‏:‏ انطلقي بنا إلى قبره، وهو في صخرة مطبقة، فدعا الله تعالى، فقام العازر يقطر ودكه، فعاش وولده له‏.‏ و‏(‏ابن العجوز‏)‏، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل سريره على عنقه، ورجع إلى أهله، وبقي حتى وُلد له‏.‏ و‏(‏ابنة العاشر‏)‏، كان يأخذ العشور، قيل له‏:‏ أتحييها، وقد ماتت أمس‏؟‏ فدعا الله تعالى، فعاشت وولد لها‏.‏ و‏(‏سام بن نوح‏)‏، دعا باسم الله الأعظم، فخرج من قبره، وقد شاب نصف رأسه، فقال‏:‏ أقامت الساعة‏؟‏ قال‏:‏ لا، لكني دعوت الله فأحياك، ما لي أرى الشيب في رأسك، ولم يكن في زمانك‏؟‏ قال‏:‏ سمعت الصيحة، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها‏.‏ قيل‏:‏ كان يحيي الموتى ب ‏{‏يا حي يا قيوم‏}‏‏.‏

‏{‏وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم‏}‏، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا، هذا سحر، أخبرنا بما نأكل وما ندخر‏؟‏ فكان يُخبر الرجل بما يأكل في غدائه وعشائه، ورُوِيَ أنه لما كان في المكتب، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام، فيقول للغلام‏:‏ انطلق‏.‏‏.‏‏.‏ غداء أهلك كذا وكذا، فيقول أهله‏:‏ من أخبرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا‏:‏ لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا‏:‏ ليسوا ههنا، قال‏:‏ ماذا في البيت‏؟‏ قالوا‏:‏ خنازير، قال عيسى‏:‏ كذلك يكونون، ففتحوا الباب، فإذا هم خنازير، فهموا بقتله، فهربت به أمه إلى مصر‏.‏

قاله السُّدي‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين‏}‏، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده، ‏{‏ومصدقاً لما بين يدي من التوراة‏}‏ أي‏:‏ وجئتكم مصدقاً للتوراة، وشاهداً على صحتها، ‏{‏ولأُحلَّ لكم بعض الذي حُرم عليكم‏}‏ في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب ولحم الإبل والعمل في السبت‏.‏ وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة، ولا يخل بكونه مصدقاً له، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته‏.‏ فإن النسخ في الحقيقة‏:‏ بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم‏.‏ ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏جئتكم بآية‏}‏ واضحة ‏{‏من ربكم‏}‏، قد شاهدتموها بأعينكم، فما بقي إلا عنادكم، ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏‏.‏

ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال‏:‏ ‏{‏إن الله ربي وربكم فاعبدوه‏}‏ ولا تعبدوا معه سواه، ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ لا عوج فيه‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أي‏:‏ لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ في المخالفة، ‏{‏وأطيعون‏}‏ فيما أدعوكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل، فقال‏:‏ ‏{‏إن الله ربي وربكم‏}‏؛ أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايتُه التوحيد، وقال‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏؛ إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة، التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره‏:‏ قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «قُلْ آمَنْتُ بِاللّهِ ثم اسْتَقِمْ»‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من انقطع بكليته إلى مولاه، وصدف عن حظوظه، وهواه، وأفنى شبابه في طاعة ربه، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه، تحققت له البشارة في العاجل والآجل، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل، ورزقه من فواكه العلوم، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها، فقربها إليه وتولاها، وبشرها بالاصطفائية والتطهير، وأمرها شكراً بالجد والتشمير، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه، روح الله وكلمة الله، من غير أب ولا سبب، ولا معالجة ولا تعب، أمره بأمر الله، يبئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ، ومن انطقعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها»‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ صِدْقُ المجاهدة‏:‏ الانقطاع إليه من كل شيء سواه‏.‏ فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله، وأحيا موتى القلوب بذكر الله، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب، يدل على طاعة الله، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏‏:‏ الجار يتعلق بحال محذوفة، أي‏:‏ ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه، أو مُضيفاً نفسه إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، أو يتعلق ب ‏{‏أنصاري‏}‏؛ مضمِّناً معنى الإضافة، أي‏:‏ من يضيف نفسه إلى الله في نصره‏.‏ وحواري الرجل‏:‏ خاصته، الذي يستعين بهم في نوائبه، وفي الحديث عنه- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لكلِّ نبي حَوَاري، وحَوارِيي، الزُّبَيْر» وحواريوا عيسى‏:‏ أصحابه الذين نصروه، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم‏.‏ والحَوَرُ‏:‏ البياض الخالص، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته، ويقال للبيضاء من النساء‏:‏ حوارية‏.‏ وقيل‏:‏ كان الحواريون قًصَّارين، يُحَوِّرُون الثياب، أي‏:‏ يبيضونها، وقيل‏:‏ كانوا ملوكاً يلبسون البياض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلما أحسن عيسى‏}‏ من بني إسرائيل ‏{‏الكفر‏}‏، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس، بعدما بُعث إليهم، وأرادوا قتله، فرَّ منهم واستنصر عليهم، و‏{‏قال من أنصاري‏}‏ ملجئاً ‏{‏إلى الله‏}‏، أو ذاهباً إلى نصر دينه، ‏{‏قال الحواريون نحن أنصار الله‏}‏ أي‏:‏ أنصار دينه، ‏{‏آمنا بالله وأشهد‏}‏ علينا بأننا ‏{‏مسلمون‏}‏؛ لتشهد لنا يوم القيامة، حين يشهد الرسل لقومهم، ‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت‏}‏ على نبيك من الأحكام، ‏{‏واتبعنا الرسول‏}‏ عيسى عليه السلام، ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ بوحدانيتك، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- فإنهم شهداء على الناس‏.‏

قال عطاء‏:‏ سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى، وآخر ما دفعته إلى الحواريين، وكانوا قصَّارين وصباغين، فأراد مُعلّم عيسى السفر، فقال لعيسى‏:‏ عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان، وقد علمتك الحرفة فاصبغها، فطبخ جُبّاً، واحداً، وأدخل فيه جميع الثياب، وقال لها‏:‏ كوني على ما أريد، فقدم الحواريُ، والثياب كلها في الجب، فلما رآها قال‏:‏ قد أفسدتها، فأخرج عيسى ثوباً أصفر، وأحمر، وأخضر، إلى غير ذلك، فعجب الحواري، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى، ودعا الناس إليه، وآمنوا به، ونصروه، فهم الحواريون‏.‏

ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطؤوا عليه، ‏{‏ومكروا‏}‏ أي‏:‏ دبروا الحيل في قتله، ‏{‏ومكر الله‏}‏ بهم، أي‏:‏ استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم، ورُفع عيسى عليه السلام، فالمكر في الأصل‏:‏ هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة‏.‏ ولا تُسند إلى الله إلى على حسب المقابلة والازدواج‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ النِّساء‏:‏ 142‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏، ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏‏.‏ أي‏:‏ أشدهم مكراً، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب، أو أفضل المجازين بالعقوبة؛ لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه‏.‏

تنبيه‏:‏ قيل للجنيد رضي الله عنه‏:‏ كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه، وقد عابه على غيره‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري، ولكن أنشدني فلان للطبرانية‏:‏

فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ *** ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ

> أُحِبّك، لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي *** وإن يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا

وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي *** وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ

فقال له السائل‏:‏ أسألُك عن القرآن، وتجيبني بشعر الطبرانية‏؟‏ قال‏:‏ ويحك، قد أجبتك إن كنت تعقل‏.‏ إنَّ تخليته إياهم مع المكرية، مكرٌ منه بهم‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وجه الشاهد في قوله‏:‏ ‏(‏وتفعله فيحسن منك ذاك‏)‏، ومضمن جوابه‏:‏ أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان، لا عيب فيه ولا نقصان، كما قال صاحب العينية‏:‏

وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ *** أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ

يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ *** فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

وتخليته تعالى إياهم مع المكر، تسبب عنه الرفع إلى السماء، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان، حتى ينزل خليفة عن نبينا- عليه الصلاة والسلام-، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان‏.‏

الإشارة‏:‏ يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين، الذين يجعلهم الله حواري الدين، ففي الحديث الصحيح‏:‏ «خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ» فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال، يهربون من حس الدنيا وشغبها، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله، وهم أهل التجريد، الذي اصطفاهم الله لخالص التوحيد، فروا إلى الله فآواهم الله، قالوا‏:‏ ‏{‏آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون‏}‏ منقادون لما تريد منا، ‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت‏}‏ من الأحكام الجلالية والجمالية، قد عرفناك في جميع الحالات، ‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ لحضرتك، المنعمين بشهود ذاتك، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية، وانصرنا فإنك خير الناصرين، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 58‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذ قال‏}‏‏:‏ ظرف لمقدر، أي‏:‏ اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، و‏{‏متوفيك‏}‏ أي‏:‏ رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم‏:‏ توفيت كذا واستوفيته‏:‏ قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك؛ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَا الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 60‏]‏، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ، و‏{‏نتلوه‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏من الآيات‏}‏‏:‏ حال، أو ‏{‏من الآيات‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏نتلوه‏}‏‏:‏ حال، أو خبر بعد خبر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ اذكر ‏{‏إذ قال الله‏}‏ لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه‏:‏ ‏{‏يا عيسى إني متوفيك‏}‏، أي‏:‏ قابضك إليّ ببدنك تامّاً، ‏{‏ورافعك إليَّ‏}‏ أي‏:‏ إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، ‏{‏ومطهرك من الذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ من مخالطة دنس كفرهم، ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك‏}‏؛ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين، وقال قتادة والشعبي والربيع‏:‏ هم أهل الإسلام‏.‏ ه‏.‏ فوالله ما اتبعه من ادعاه ربا، فمن تبع دينه حقّاً وقد حقق الله فيهم هذا الأمر، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إليَّ مرجعكم‏}‏ بالبعث، ‏{‏فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏ من أمر الدين وأمر عيسى‏.‏ ‏{‏فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة‏}‏ أي‏:‏ فأجمع لهم عذاباً الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي‏.‏ ‏{‏وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم‏}‏ في الدارين بالنصر والعز في الدنيا، وبالرضا والرضوان في الآخرة، ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏؛ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما، ‏{‏نتلوه عليك من الآيات‏}‏ أي‏:‏ العلامات الدالة على صدقك، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب، بل هي من ‏{‏الذكر الحكيم‏}‏، وهو القرآن المبين‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما طهر سره من الأكدار، وقدس روحه من دنس الأغيار، ورفع همته عن هذه الدار، عرج الله بروحه إلى سماء الملكوت، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت، وبقي ذكره حيّاً لا يموت، وجعل من انتسب إليه في عين الرعاية والتعظيم، وفي محل الرفعة والتكريم، قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «هَاجِرُوا تكسبوا العز لأولادكم»، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات، والركون إلى العوائد والمألوفات، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس، وتمكن من العز الذي لا يفنى، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه؛ إلى أن يرث الأرض ومن عليها، ‏{‏وهو خير الوارثين‏}‏‏.‏ هذه سنة الله في خلقه، لأنهم نصروا دين الله ورفعوا كلمة الله، فنصرهم الله، ورفعهم الله، قال تعالى‏:‏

‏{‏إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ‏}‏ ‏[‏محَمَّد‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقال القشيري‏:‏ الإشارة فيه‏:‏ إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية‏.‏ ه‏.‏